cool
cool
cool
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 

 الليلة الثالثة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
????
زائر
avatar



الليلة الثالثة Empty
مُساهمةموضوع: الليلة الثالثة   الليلة الثالثة Emptyالثلاثاء أبريل 28, 2009 11:03 pm

وإذا غرقوا في اليم، فإنهم ثانية يقومون، وإذا ضاع المحبون، فلن يضيع الحب ولن يكون للموت سلطان".‏

دبلان توماس‏

انداح الليل مسرعاً، واشرأبت خيوطه السود كنسيج عنكبوتي، تغطي منافذ النور مسدلة ستارة قاتمة على كل ما يحيط به وأسرع الخيال، يطارد الذكريات، يقتنصها، ثم يستعيدها هماً وحزناً، هذا هو الليل الثالث، يمر به يجرح مشاعره، ويطلق هواجس مخيفة في أعماقه، يفترس رؤاه بألوانه الكابية، يخلف في الذاكرة غضباً وأعاصير من القلق، تأتي على ما تبقى له من إرادة وقوة. مضت ليلتان، وهاهي الثالثة وهو منغرس في هذه الحفرة، متشبثاً بأمل أن يستطيع الوصول إلى جسد أخيه الملقى على أرض موحلة، بين عشرات ممن سقطوا معه. أحزانه تلسعه كالسياط، في الليلتين اللتين مضتا. حاول كثيراً، زحف على الأرض، تاركاً الموضع الذي تجمعت فيه مياه الأمطار المنهمرة منذ الليلة الفائتة.‏

رأى القمر، يتوارى خلف سحب سود مسافرة عبر مسافات شاسعة، على البعد، امتدت غابات النخيل موشحة بسواد الليل الممزق بضوء الانفجارات، ودويها المرعب، لم يبعد في ذهنه سوى أمر واحد، الوصول إلى المكان الذي يرقد فيه الجسد، منذ يومين عساه يكمل واجباً فيرافق المعزين، وهم يودعونه إلى مثواه الأخير.‏

سيفاجأ والدي، ويصمت طويلاً، أنا أعرفه رجلاً صلب العود، دموعه تحجرت في عينيه، منذ أن ودع أخي الكبير قاسماً، ووسده بيديه في حفرته، الوالدة الحبيبة أي هم يرتسم على وجهك الحزين ليتني أراك وأضمك إلى صدري.‏

وهاب، آه لو يعلمون الآن، ها أنت ملقى أمامي، لا تفصلني عنك سوى أمتار قليلة ولا أستطيع الوصول إليك. آه يا أرض الحرام. هذه ليلة الحسم، لن تبقى في مكانك أكثر مما بقيت، عشت ليلتين لم أذق فيهما راحة، دموعي ممتزجة مع دموع السماء، أيقنت الآن أن لا فائدة من البكاء، ثمة متسع من الوقت، سأبكيك هناك، بين الأهل والأقارب والأصحاب، ستبقى ذكراك في كل مكان أرحل إليه، أما الآن فلي منك العذر، أنا في طريقي إليك، غداً، عندما أحمل جثمانك مع الحاملين، ستبرق في الذاكرة. كل الأماني الحلوة التي حلمنا بها، وستكمل الدموع بقية القصة.‏

اهتز المكان، بفضل سقوط قذيفة، مد جسده سريعاً على الأرض، وضع رأسه بين يديه، غطته موجة من الطين والتراب، تشمم رائحة البارود المحترق من حوله، زخت فوقه، رشقات من الرصاص.‏

ـ سيدي، أرجوك، امنحني هذه الفرصة، لن أتأخر طويلاً سآتي به.‏

تفرس في وجهي ثم قال:‏

ـ لك ما تريد، إنني أقدر ما أنت فيه، خذ حذرك، فالمكان خطير.‏

ملأته رغبة عنيفة لرؤية والديه، وأصدقائه، حنين طغى على كل ما حوله، هدأت قليلاً أصوات الرعب، رفع رأسه، نفذ بصره خلال الظلام المقطع بوهج القذائف، رأى أخاه على مبعدة منه، التفت إلى ساعته، رأى عقاربها تشير إلى الثالثة فجراً، همس هذا أوان العمل الآن، سأختزل هذه المسافة اللعينة التي تفصلني عنك.‏

شعر بالعطش والجوع، يعذبانه، وتعب يسري في جسده كالمرض، برودة الجو، تخللت كل مسامات جسده، رفض ذاته مرة واحدة، أزاح كل ضعفه، اتكأ على يديه، ثم بدأ يسحب جسده، رويداً رويداً حتى استوى خارج الموضع، زحف قليلاً باتجاه جسد أخيه، على الضوء الخافت المتسرب عبر مسافات الزمن، بدأ المحاولة "في الليلة الماضية، وما قبلها، لم استطع أن أفعل شيئاً، منعني هذا الرشق اللعين من التقدم نحوك، ومنذ منتصف هذه الليلة، خفت حدته، وهاب ها أنا آت إليك، فاعذرني إن تأخرت عنك "رفع جسده مرة أخرى، توقف عن الزحف، أحس بتعب مفاجئ، انتابته موجة كالجنون، أطبق بأسنانه على سبابته بقوة، بدا يخاطب نفسه ((إيه مهدي)) أتشتهي شيئاً، وهناك جسد وهاب، ملقى على الأرض منذ يومين مضيا، أتحس بالعطش، وجسمه معرض للعراء، أينهشك الجوع، وهناك دماءه تسقي ما حولها، رباه، ما هذا الجنون.‏

زحف بسرعة، تناثر الهول من حوله، انقلب متعباً على ظهره، تجولت عيناه في الفضاء المفتوح بلا نهاية، رأى القمر حزيناً منكسراً، تغيبه غيوم داكنة، يخرج منها كفارس مهزوم، هدأ قليلاً، استعاد بعضاً من الراحة، انكفأ ثانية على صدره، بدأ الزحف، لا يدري كم مضى عليه من الزمن، مدّ بصره المثقل بالفجيعة والحزن، انهمرت دموعه، استولى عليه حنين مضمخ بالذكريات، نسى كل شيء، هتف بألم:‏

ـ ها أنا خيراً بجانبك، وهاب يا أخي لا تدري كم عانيت منذ ليلتين، وبعضاً من هذه الليلة، اعذرني، أراك أمامي ولا أستطيع الوصول إليك، سأغرس روحي بجانبك شراعاً يحملك إلى مرافئ الحب والخلود، أبحث فيك عن ذاتي التي امتزجت مع ذاتك، أذكر أيام الطفولة والصبا وسنين النار، التي التهمت من قبلك قاسماً، وها هي تأتي أخيراً عليك، لن تعرف روحي الفرح بعد الآن، ستبقى ألماً يرافقني ما حييت؟ وهاب أما تسمعني؟ أما فيك خلجة ترد عليّ؟ لا بأس عليك. سأمضي بك، ستصحبني، محمولاً على كتفي، الفجر آت، لأسرع في العمل.‏

تحسس الجسد الثاوي بجانبه، وضع يده على الوجه المغطى ببقايا الطين، أزاح مشاعره جانباً، استبدت به رغبة العمل، وضع يديه تحت جسد أخيه، رفع قليلاً حتى استوى جالساً، انحنى إلى الأمام ثم طوق الجسد البارد، وبدأ يسحبه رويداً رويداً، رأى الظلام يتبعثر في كل الأنحاء، والقمر مازال يختفي ويظهر من بين ركام الغيوم المسافرة، بدأ خطواته الأولى، قطع أمتاراً قليلة، حاول أن يسرع، غطته أحاطت به رشقات من الرصاص باغته على حين غرة، عض على شفتيه، انحنى ثانية على جسد أخيه الذي انزلق من بين يديه، منطرحاً على الأرض الموحلة، غام كل ما حوله، ضج خياله بهوس مرعب، رأى والديه يبتسمان، ثم يقهقهان، خاطبهما بلغة الصمت، أبي، أمي هذا وهاب، وذاك قاسم، وأنا مزروع بينهما كشجرة تساقطت أوراقها.‏

تسارعت أنفاسه، اشتد صوت الدوي، أسند ظهره إلى الأرض، همس كالمأخوذ، (لسوف نسافر معاً، كما عشنا الحياة معاً) من بين تهاويم الخيال، والجسد الذي تمزق في أكثر من موضع، رأى غيوماً، تعبر المستحيل كخيول مسرعة، وبينها قمر متعب ذابل الضوء، يتنقل فوق ظهورها، ثمة أصوات قريبة، بعيدة، وخيوط ضوء بدت تتسلق ستر الظلام، وعينان مفتوحتان، تنظران في أفق غامض.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الليلة الثالثة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
cool :: منتدى التسلية :: منتدى الحكايات-
انتقل الى: